النحو والمنطق الأرسطوطاليسي - د. علي الوردي
رأينا في مقالة سابقة كيف أن البصرة كانت أول مدينة في العالم الإسلامي تعني بعلم النحو وتضع أصوله. ومما يجدر ذكره هنا أن البصرة كانت كذلك أول مدينة يترجم فيها المنطق الأرسطوطاليسي.
يقال أن ابن المقفع كان أول من اشتغل بترجمة كتب أرسطو المنطقية في البصرة. وقد ترجمها عن الفارسية. وكان منها كتاب المقولات ( قاطيغورياس)، وكتاب العبارة (باريمينياس)، وكتاب المدخل (إيساغوجي)، وكتاب المقارنة (أنالوطيقا).
وقبل ذلك بزمن قليل نشأ في البصرة مذهب الاعتزال على يد واصل بن عطاء، ونشأ معه علم الكلام. فصارت البصرة من جراء ذلك مباءة للجدل المنطقي والبحث في أصول الدين.
وهذه ظاهرة اجتماعية تلفت النظر فما هو السبب فيها؟ إننا قد عرفنا فيما مضى السبب الذي أدى إلى ظهور علم النحو في البصرة، ونريد الآن أن نعرف السبب الذي أدى إلى ترجمة المنطق ونشوء الاعتزال وعلم الكلام فيها.
معركة الجمل:
في اعتقادي أن نشوب معركة الجمل في البصرة كان من العوامل الرئيسية في ذلك. ومن المؤسف أن نجد المؤرخين لايعنون بهذه الناحية من معركة الجمل. فهم يذكرونها كما يذكرون أية معركة أخرى في التاريخ، إذ لا يجدون فيها غير جيشين يتقاتلان ثم ينتصر أحدهما على الآخر.
الواقع أن لهذه المعركة أهمية فكرية واجتماعية تفوق مالها من أهمية سياسية وعسكرية. وسبب ذلك أنها كانت أول معركة تنشب بين المسلمين في تاريخ الإسلام، حيث اقتتل فيها أناس يؤمنون بدين واحد ويتلون كتاباً واحداً ويصلون إلى قبلة واحدة.
لقد كان المسلمون قبل تلك المعركة يحاربون أقواماً من غير دينهم، وكانوا في حربهم واثقين بأن الحق معهم وأن الباطل مع أعدائهم. وعلى حين غرة جاءت عائشة إلى البصرة تقود جيشاً عرمرماً. ثم يأتي علي بن أبي طالب بجيش آخر فيصطدم الجيشان اصطداماً مريراً أريقت فيه سيول من الدماء.
وهنا لابد لأهل البصرة من أن يتجادلوا ويشتدوا في الجدال. فقد كانوا حائرين يتساءلون عن الحق في أي جانب يكون؟ أيكون الحق مع علي وبهذا تمسي عائشة أم المؤمنين مبطلة، أم يكون الحق مع عائشة فيمسي علي أمير المؤمنين مبطراً؟
ومثل هذا الجدل لا يصل بالناس إلى نتيجة عقلية حاسمة. فكل فريق يملك من البراهين ما يؤيد بها موقفه. فكان علي ينادي الناس من جهة، وكانت عائشة تناديهم من الجهة الأخرى. ووقف كثير من الناس حائرين لا يدرون أين يذهبون.
وقد تمثلت الحيرة يومذاك في الزبير بأجلى مظاهرها. يروي الطبري عنه أنه قال: “ما كنت في موطن، منذ عقلت، إلا وأنا أعرف فيه أمري، غير موطني هذا”. وقد أدت به الحيرة إلى الانسحاب من المعركة والذهاب في الأرض لا يلوي على شيء.
والآن بعد أن مضى على المعركة ثلاثة عشر قرناً، لا يزال المسلمون يتجادلون ويتخاصمون في أمرها دون أن يصلوا إلى نتيجة. فكيف ياترى كان حالهم يوم اشتداد القتل؟
جاء رجل إلى علي بن أبي طالب أثناء المعركة يسأله: “أيمكن أن يجتمع الزبير وطلحة وعائشة على باطل؟” فأجابه الإمام:”انك لملبوس عليك. ان الحق والباطل لا يعرفان بأقدار الرجال. اعرف الحق تعرف أهله.”
وهذا يدل على مدى الحيرة التي أصابت عقول الناس آنذاك. فلقد التبس الأمر عليهم، وهالهم أن يجدوا علياً ومعه خيرة الصحابة في جانب، ثم يجدوا عائشة ومعها طلحة والزبير في الجانب الآخر. فلابد أن يكون أحد الجانبين على حق، وأن يكون الآخر على باطل. وهذا أمر يصعب عليهم تصوره، وقد كان النبي يقول: “أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم أهديتم.”
النتائج الفكرية:
انتهت المعركة بانتصار علي بن أبي طالب. ورجعت عائشة إلى المدينة. ولكن المعركة الفكرية لم تنته بالرغم من ذلك. فقد بقى الناس يتجادلون ويتلاومون. ومما زاد في الطين بلة انتصار معاوية بعدئذ واستيلائه على الخلافة. وكان من سياسة معاوية أن ينتقص من شأن علي بن أبي طالب وأن يعلى من شأن عائشة.
صارت عائشة في نظر معاوية رمزاً يمثل المطالبة بدم عثمان. ودم عثمان -كما لايخفى - هو الأساس الذي قامت عليه الدولة الأموية.ولهذا أخذت الدولة تقدس عائشة وتشجع الناس على تقديسها في كل سبيل. ففي الوقت الذي صار علي بن أبي طالب يشتم على المنابر، أصبحت عائشة سيدة نساء العالم، وتهافت الناس عليها ليسمعوا من فمها حديث زوجها رسول الله …
أهل البصرة:
وإذ نرجع إلى أهل البصرة نجدهم منقسمين إلى فريقين: عثمانيين وعلويين، والجدل بينهم قائم على قدم وساق. والظاهر أن البصرة فاقت بانقسامها هذا أي قطر آخر. ففيها وقعت معركة الجمل، ولابد أن يكون فيها أناس يذهبون مذهب عائشة في الحزن على عثمان، وآخرون يذهبون مذهب علي بن أبي طالب في الثورة على عثمان وعلى قومه من بني أمية.
أما الأمصار الإسلامية الأخرى فقد اتخذت في الأمر طريقاً واضحاً، إلى هذا الجانب أو ذاك، وقلما نجد فيها ما وجدنا في البصرة من انقسام مذهبي عنيف. وهذا الانقسام لابد أن يؤدي إلى الجدال في مفهوم الحق والباطل وفي المقاييس المنطقية التي تفرق بينهما.
ولا عجب بعد أن يظهر مذهب الاعتزال وعلم الكلام، ثم يترجم المنطق. في البصرة قبل غيرها من الأمصار الإسلامية.
النحو والمنطق:
في مثل هذا الجو المشحون بالجدل المنطقي نشأ النحو العربي. ومن الطبيعي اذن أن يتأثر النحو بالمنطق على وجه من الوجوه. ومما تجدر الإشارة إليه في هذا الصدد ان ابن المقفع الذي ترجم المنطق كان صديقاُ للخليل بن أحمد الفراهيدي. وكانت بينهما مودة وإعجاب متبادل. ولعل هذا من أسباب مارأينا في الخيل من ميل شديد للقياس حيث استخدمه في النحو استخداماً واسعاً.
ومهما يكن الحال فقد اشتهر نحاة البصرة بأنهم قياسون، إذ جعلوا للقياس المنطقي شأناً كبيراً في وضع قواعدهم، حتى أطلق عليهم لقب أهل المنطق. والمعروف عنهم انهم كانوا يضعون القواعد أولاً، ثم يختارون من الشواهد واللهجات ما يلائم تلك القواعد. فإذا اسمعوا اعرابياًَ ينطق بخلاف اقيستهم أهملوا كلامه وعدوه ملحوناً. أما إذا وجدوا الخلاف في القرآن أو في شاهد لايمكن تخطئته لجأوا إلى التأويل والتعليل.
يقول الأستاذ أحمد أمين عن نحاة البصرة: “فهم قد فضلوا القياس وأمنوا بسلطانه وجروا عليه وأهدروا ماعداه، وإذا رأوا لغتين: لغة تسير مع القياس، ولغة لاتسير عليه، فضلوا التي تسير عليه، وأضعفوا من قيمة غيرها. فهم في الواقع أرادوا أن ينظموا اللغة ولو بإهدار بعضها. وأرادوا أن يكون ماسمع من العرب مخالفاً لهذا التنظيم مسائل شخصية جزئية يتسامحون فيها نفسها ولا يتسامحون في مثلها والقياس عليها حتى لا تكثر فتفسد القواعد والتنظيم، هذا إذا لم يتمكنوا من أن يؤولوا الشاذ تأويلاً يتفق وقواعدهم ولو بنوع تكلف.
النحو في الكوفة:
بعد أن نشأ النحو في البصرة وترعرع، تناوله أهل الكوفة. وهناك ظهرت مدرسة في النحو لها طابع خاص. فقد أخذ نحاة الكوفة يعترضون على نحاة البصرة في إخضاع النحو للقياس، وصاروا يناقشونهم في ذلك نقاشاً عنيفاً أدى في بعض الأحيان إلى الخصومة وسفك الدماء.
يقول أهل الكوفة إن القضايا النحوية سبيلها السماع والاستقراء لا الإمعان المنطقي في القياس. فهم يريدون أن يخضعوا في أحكام النحو للذوق الطبيعي، ويطرحون ما يحول دون إحساسهم بالطبيعة اللغوية من أحكام عقلية وأقيسة منطقية.
إذا سمع الكوفيون من أحد الأعراب مثالاً شاذاَ أخذوا به، إذ هو يمثل في نظرهم لهجة بعينها وينبغي أن يحسب حسابها. فإهدار هذا المثال الشاذ إنما هو إهدار لجانب لغوي لا تتم الدراسة إلا به.
ان مدرسة الكوفة كانت تجري في تطوير النحو على أساس الاحترام المتبادل التام لكل ما يصدر من بادية العرب، كأنها تحسب أهل البادية معصومين من الخطأ. أما مدرسة البصرة فكانت تنظر إلى أهل البادية نظرة التقاط واختيار، وهي لا تنزههم من الخطأ واللحن. وكانت تستخرج القواعد بالقياس على الأعم الأغلب من لغة الأعراب. فإذا وجدت فيه شذوذاً أهدرته ولم تقس عليه.
نتيجة النزاع:
أخذ النزاع بين أهل البصرة والكوفة يخمد تدريجياً بمرور الأيام. والظاهر ان المدرستين تداخلت إحداهما بالأخرى وامتزجتا، فأصبحتا مدرسة واحدة. وكان هذا من سوء حظ النحو العربي.
لقد كان الجدير بالنحاة المتأخرين أن يتبعوا إحدى المدرستين ويهملوا الأخرى. ولكننا رأيناهم يأخذون بآرائهما معاً ويعدون أساتذتهما أئمة في النحو بلا تفريق. فضيعوا على النحو بذلك فرصة كبيرة كان المفروض فيها أن تنقذ النحو من الورطة التي وقع فيها أخيراً.
صار النحاة من جهة يقلدون مدرسة الكوفة في عنايتها بكل ما يروى عن اعراب البادية، وصاروا من الجهة الأخرى يقلدون مدرسة البصرة في عنايتها بالقياس. انهم، بعبارة أخرى، أخذوا يهتمون بكل مايردهم من البادية من شواهد شاذة وغير شاذة، فيقيسون عليها. وبهذا صارت القواعد النحوية في وضعها النهائي معقدة ومتشبعة جداً، فابتعدت عما تقتضيه السليقة الفطرية من بساطة ووضوح.
والذي يدرس القواعد النحوية الموجودة بين أيدينا، دراسة موضوعية، يشعر بأنها قواعد اصطناعية غير طبيعية، وليس من المعقول أن يتكلم بها بشر على هذه الأرض.
انتفاضات نحوية:
لم يخل تاريخ النحو، على كل حال، من انتفاضات صغيرة تنهج نهج الكوفة في الاعتراض على استعمال القياس المنطقي في النحو.
يحدثنا أبو حيان التوحيدي في كتاب “المقابسات” عن بعض المناظرات التي كانت تعرض في القرن الرابع الهجري ويدور النقاش فيها حول المنطق والنحو. ونكاد نتلمح في ثنايا تلك المناظرات صراعاً فكرياً يشبه الصراع الذي نشب بين البصرة والكوفة قبل قرنين. فقد كان بعض المشتركين فيها يريدون أن يصبوا أساليب اللغة العربية في قوالب المنطق الإغريقي، بينما كان البعض الآخر يريد الاعتزاز بخصائص اللغة العربية ويستنكر إخضاعها لمنطق غريب عنها.
وفي المغرب، في عهد الموحدين، ظهر أعظم ثائر على النحو العربي، هو ابن مضاء القرطبي. وقد كتب هذا الرجل ثلاثة كتب هي: (1) المشرق في النحو، (2) تنزيه القرآن عما لا يليق بالبيان، (3) الرد على النحاة. وقد حاول بهذه الكتب أن يهدم نحو سيبويه وأقيسته.
والظنون أن هناك شبهاً كبيراً بين رأي مضاء ورأي الأستاذ ابراهيم مصطفى الذي أشرنا إليه في مقالة ماضية. ولكن رأي ابن مضاء لم يقدر له النجاح. فقد كان الناس مشغوفين بنحو سيبويه، فلم يستطع ابن مضاء أو غيره أن يثنيهم عنه.
ابن مالك:
وفي القرن السابع ظهر ابن مالك. وقد اشتهر هذا الرجل في النحو شهرة سيبويه، وإليه يرجع الفضل في تجميد النحو وصبه في قالبه الأخير. فقد نظم ابن مالك نحو سيبويه ووضحه وفصله وقربه إلى أذهان الناس.
ومن أعمال ابن مالك أنه نظم في النحو أرجوزة تبلغ ألف بيت، جمع فيها قواعد النحو. واشتهرت ألفية ابن مالك هذه شهرة واسعة ونالت حظوة كبيرة، حتى حفظها أكثر المتعلمين في الشرق والغرب، وصارت مرجعاً لطلاب النحو فيما يختلفون فيه، وكثرت عليها الشروح المستفيضة.
ولا تزال المدارس الدينية واللغوية حتى يومنا هذا تعتبر ألفية ابن مالك جزءاً مهماً من مناهجها الدراسية. يكفي الطالب أن يحفظ الألفية حتى يصعر خده للناس ويعد نفسه علامة في النحو. فلا يكاد يعترض معترض حتى يشهر عليه “العلامة” بيتاً من الألفية فيفخمه به.
كان النحاة قبل ظهور الألفية يستطيعون أن يبحثوا ويتجادلوا في بعض مبادئ النحو وقواعده، ولكنهم لم يكادوا يرون القواعد النحوية قد قيدت في أبيات من الشعر حتى رضخوا وسكنوا. واستطيع أن أعد ألفية ابن مالك بداية العهد الذي بدا فيه النحو العربي يدخل في طور الجمود.
الصيغة النهائية:
لاحظ الباحثون المحدثون ان الصيغة النهائية التي جمد فيها النحو العربي متأثرة بالمنطق الأرسطوطاليسي تأثراً كبيراً. يقول الدكتور ابراهيم بيومي مدكور ان النحو العربي تأثر، عن قرب أو بعد، بما ورد على لسان أرسطو في كتبه المنطقية من قواعد نحوية، وأن المنطق الأرسطوطاليسي أثر في النحو من جانبين: أحدهما موضوعي والآخر منهجي. وأريد بالقياس النحوي أن يحدد ويوضع على نحو ماحدده القياس المنطقي.
ومما يلفت النظر في كتب النحاة المتأخرين انهم يسلكون في بحوثهم مسلك المناطقة. وكثيراً مانجد القوانين المنطقية التي جاء بها أرسطو مسيطرة على عقولهم، كأنهم يتصورون القواعد النحوية تجري على نفس النمط الذي تجري عليه ظواهر الكون.
ومن الجدير بالذكر هنا أن القوانين المنطقية القديمة ظهر بطلانها أخيراً، فهي لا تصلح اليوم لتفسير ظواهر الكون. ولكن أصحابنا لا يزالون مصرين على التمسك بهاز وهم لا يكتفون بالاعتماد عليها من الناحية الميتافيزيقية، بل نراهم يعتمدون عليها في تعليل قواعدهم النحوية أيضاً. وهذا دليل على اننا نسير متخلفين عن الركب العالمي بمراحل عديدة.
نظرية العامل في النحو:
من قوانين المنطق القديم: أن لكل شيء سبباً وأن لكل حادث محدثاً. وهذا مايعرف لدى المناطقة بقانون السببية. وقد شغف به النحاة وجعلوه أساساً لعلمهم. ومن هنا نشأت عندهم نظرية العامل. وهي نظرية تشغل حيزاً كبيراً من كتبهم، وتعد أهم موضوع عندهم.
ونظرية العامل هذه تدور حول السبب الذي يجعل الكلمة مرفوعة أو منصوبة أو مجرورة. فالنحاة يرون الحركات الاعرابية تتبدل في الكلمة مرة بعد مرة على نظام مطرد. فقالوا أن هذا التبدل عرض حادث وهو لابد له من محدث كما يقول المناطقة. فما هو هذا المحدث؟ وفي البحث وراء هذا المحدث صار النحاة يخلطون ويخبطون خبط عشواء.
ثم ذهبوا إلى القول بأن اجتماع عاملين على معمول واحد غير ممكن. وهم يستندون في ذلك على قانون عدم التناقض الذي جاء في المنطق القديم. فهم يقولون: إذا اتفق العاملان في العمل لزم تحصيل الحاصل وهو محال، أما إذا اختلفا فالنقيضان يجتمعان في المعمول، حيث يكون مثلاً منصوباً ومرفوعاً في آن واحد، وهذا محال أيضاً.
طبيعة العامل:
لو أنهم جعلوا العامل معنوياً لهان الأمر وصار لبحثهم قيمة. ولكنهم استهانوا بالعامل المعنوي وآثروا عليه العامل اللفظي. فهم يعزون رفع الفاعل مثلاُ إلى الفعل الذي يسبقه. وكان الأولى بهم أن يعزوه إلى الفاعلية أو الإسناد، كما يصنع النحاة في اللغات الحديثة.
نشب جدل بينهم ذات مرة حول العامل الذي جعل المبتدأ والخبر مرفوعين. قال الكوفيون: ان عامل رفع المبتدأ هو الخبر، وعامل رفع الخبر هو المبتدأ. فاحتج عليهم البصريون قائلين: ان الكلمتين لا تتبادلان العمل إذ يكون كل منهما عاملاً ومعمولاً في آن واحد. وحجة البصريين في هذا الشيء لا يمكن أن يكون سبباً ونتيجة في الوقت ذاته. وقد أخذوا ذلك من المناطقة طبعاً.
ومن المبادئ التي نادى بها ابن مضاء القرطبي في إصلاح النحو هو إلغاء نظرية العامل من أساسها. ولكن صيحته لم تلق أذناً صاغية، فماتت في مهدها مع الأسف.
تقدير العامل:
كان من الصعب على النحاة أن يجدوا لكل حركة إعرابية عاملاً لفظياً يأتي قبلها. ولهذا لجأوا إلى التقدير، ووصل بهم الأمر في هذا المجال إلى درجة من السخف لا تطاق.
فإذا جئت لهم على سبيل المثال بجملة ” زيداً رأيته” وسألتهم عن العامل الذي نصب “زيداً” أجابوك انه فعل مستتر تقديره “رأيت”ز وبهذا تصبح الجملة عندهم: “رأيت زيداً رأيته”.
وإذا ذكرت لهم الآية القرآنية: “وإن أحد من المشركين من استجارك….” وسألتهم عن العامل الذي رفع كلمة “أحد” أجابوك انه فعل مستتر تقديره “استجارك” فتصبح الآية: “وان استجارك أحد من المشركين استجارك…”.
دكتاتورية النحاة:
وصار النحاة حكاماً بأمرهم يفترضون العامل كما يشاؤون، فلا يعترض عليهم أحد.
يحكى أن الكسائي كان في مجلس الرشيد ذات يوم فقرأ أبياتاً من الشعر. وكان الأصمعي حاضراً فأراد أن ينافس الكسائي في علمه بالنحو فاعترض على كلمة جاء بها الكسائي مرفوعة. فانتهره الكسائي وقال له: “اسكت، ماأنت وهذا..” ثم أخذ يتباهى على الأصمعي ويأتي بالكلمة مرفوعة ومنصوبة ومجرورة. وكان قادراً أن يخترع في سبيل ذلك ماشاء من العوامل. فسكت الأصمعي، وهبطت مكانته في عين أمير المؤمنين.
ويحكى أيضاً: ان أحد أمراء بني بويه سأل نحوياً عن العامل الذي جعل المستثنى منصوباً في نحو “قام القوم إلا زيداً”ز فقال النحوي أن عامل النصب محذوف تقديره “استثنى زيداً”، وهنا اعترض الأمير فقال: “لماذا لا يمكن تقدير عامل آخر غير ذلك العامل الناصب، حيث يقدر “امتنع زيد”، وبهذا يصبح زيد مرفوعاً. فسكت النحوي…
ويبدو ان النحوي سكت لأن المعترض عليه كان سلطاناً يجلد ويقتل. ولو كان المعترض رجلاً مستضعفاً كالأصمعي لانتهره النحوي وقال له: اسكت، ماأنت وهذا!
رأينا في مقالة سابقة كيف أن البصرة كانت أول مدينة في العالم الإسلامي تعني بعلم النحو وتضع أصوله. ومما يجدر ذكره هنا أن البصرة كانت كذلك أول مدينة يترجم فيها المنطق الأرسطوطاليسي.
يقال أن ابن المقفع كان أول من اشتغل بترجمة كتب أرسطو المنطقية في البصرة. وقد ترجمها عن الفارسية. وكان منها كتاب المقولات ( قاطيغورياس)، وكتاب العبارة (باريمينياس)، وكتاب المدخل (إيساغوجي)، وكتاب المقارنة (أنالوطيقا).
وقبل ذلك بزمن قليل نشأ في البصرة مذهب الاعتزال على يد واصل بن عطاء، ونشأ معه علم الكلام. فصارت البصرة من جراء ذلك مباءة للجدل المنطقي والبحث في أصول الدين.
وهذه ظاهرة اجتماعية تلفت النظر فما هو السبب فيها؟ إننا قد عرفنا فيما مضى السبب الذي أدى إلى ظهور علم النحو في البصرة، ونريد الآن أن نعرف السبب الذي أدى إلى ترجمة المنطق ونشوء الاعتزال وعلم الكلام فيها.
معركة الجمل:
في اعتقادي أن نشوب معركة الجمل في البصرة كان من العوامل الرئيسية في ذلك. ومن المؤسف أن نجد المؤرخين لايعنون بهذه الناحية من معركة الجمل. فهم يذكرونها كما يذكرون أية معركة أخرى في التاريخ، إذ لا يجدون فيها غير جيشين يتقاتلان ثم ينتصر أحدهما على الآخر.
الواقع أن لهذه المعركة أهمية فكرية واجتماعية تفوق مالها من أهمية سياسية وعسكرية. وسبب ذلك أنها كانت أول معركة تنشب بين المسلمين في تاريخ الإسلام، حيث اقتتل فيها أناس يؤمنون بدين واحد ويتلون كتاباً واحداً ويصلون إلى قبلة واحدة.
لقد كان المسلمون قبل تلك المعركة يحاربون أقواماً من غير دينهم، وكانوا في حربهم واثقين بأن الحق معهم وأن الباطل مع أعدائهم. وعلى حين غرة جاءت عائشة إلى البصرة تقود جيشاً عرمرماً. ثم يأتي علي بن أبي طالب بجيش آخر فيصطدم الجيشان اصطداماً مريراً أريقت فيه سيول من الدماء.
وهنا لابد لأهل البصرة من أن يتجادلوا ويشتدوا في الجدال. فقد كانوا حائرين يتساءلون عن الحق في أي جانب يكون؟ أيكون الحق مع علي وبهذا تمسي عائشة أم المؤمنين مبطلة، أم يكون الحق مع عائشة فيمسي علي أمير المؤمنين مبطراً؟
ومثل هذا الجدل لا يصل بالناس إلى نتيجة عقلية حاسمة. فكل فريق يملك من البراهين ما يؤيد بها موقفه. فكان علي ينادي الناس من جهة، وكانت عائشة تناديهم من الجهة الأخرى. ووقف كثير من الناس حائرين لا يدرون أين يذهبون.
وقد تمثلت الحيرة يومذاك في الزبير بأجلى مظاهرها. يروي الطبري عنه أنه قال: “ما كنت في موطن، منذ عقلت، إلا وأنا أعرف فيه أمري، غير موطني هذا”. وقد أدت به الحيرة إلى الانسحاب من المعركة والذهاب في الأرض لا يلوي على شيء.
والآن بعد أن مضى على المعركة ثلاثة عشر قرناً، لا يزال المسلمون يتجادلون ويتخاصمون في أمرها دون أن يصلوا إلى نتيجة. فكيف ياترى كان حالهم يوم اشتداد القتل؟
جاء رجل إلى علي بن أبي طالب أثناء المعركة يسأله: “أيمكن أن يجتمع الزبير وطلحة وعائشة على باطل؟” فأجابه الإمام:”انك لملبوس عليك. ان الحق والباطل لا يعرفان بأقدار الرجال. اعرف الحق تعرف أهله.”
وهذا يدل على مدى الحيرة التي أصابت عقول الناس آنذاك. فلقد التبس الأمر عليهم، وهالهم أن يجدوا علياً ومعه خيرة الصحابة في جانب، ثم يجدوا عائشة ومعها طلحة والزبير في الجانب الآخر. فلابد أن يكون أحد الجانبين على حق، وأن يكون الآخر على باطل. وهذا أمر يصعب عليهم تصوره، وقد كان النبي يقول: “أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم أهديتم.”
النتائج الفكرية:
انتهت المعركة بانتصار علي بن أبي طالب. ورجعت عائشة إلى المدينة. ولكن المعركة الفكرية لم تنته بالرغم من ذلك. فقد بقى الناس يتجادلون ويتلاومون. ومما زاد في الطين بلة انتصار معاوية بعدئذ واستيلائه على الخلافة. وكان من سياسة معاوية أن ينتقص من شأن علي بن أبي طالب وأن يعلى من شأن عائشة.
صارت عائشة في نظر معاوية رمزاً يمثل المطالبة بدم عثمان. ودم عثمان -كما لايخفى - هو الأساس الذي قامت عليه الدولة الأموية.ولهذا أخذت الدولة تقدس عائشة وتشجع الناس على تقديسها في كل سبيل. ففي الوقت الذي صار علي بن أبي طالب يشتم على المنابر، أصبحت عائشة سيدة نساء العالم، وتهافت الناس عليها ليسمعوا من فمها حديث زوجها رسول الله …
أهل البصرة:
وإذ نرجع إلى أهل البصرة نجدهم منقسمين إلى فريقين: عثمانيين وعلويين، والجدل بينهم قائم على قدم وساق. والظاهر أن البصرة فاقت بانقسامها هذا أي قطر آخر. ففيها وقعت معركة الجمل، ولابد أن يكون فيها أناس يذهبون مذهب عائشة في الحزن على عثمان، وآخرون يذهبون مذهب علي بن أبي طالب في الثورة على عثمان وعلى قومه من بني أمية.
أما الأمصار الإسلامية الأخرى فقد اتخذت في الأمر طريقاً واضحاً، إلى هذا الجانب أو ذاك، وقلما نجد فيها ما وجدنا في البصرة من انقسام مذهبي عنيف. وهذا الانقسام لابد أن يؤدي إلى الجدال في مفهوم الحق والباطل وفي المقاييس المنطقية التي تفرق بينهما.
ولا عجب بعد أن يظهر مذهب الاعتزال وعلم الكلام، ثم يترجم المنطق. في البصرة قبل غيرها من الأمصار الإسلامية.
النحو والمنطق:
في مثل هذا الجو المشحون بالجدل المنطقي نشأ النحو العربي. ومن الطبيعي اذن أن يتأثر النحو بالمنطق على وجه من الوجوه. ومما تجدر الإشارة إليه في هذا الصدد ان ابن المقفع الذي ترجم المنطق كان صديقاُ للخليل بن أحمد الفراهيدي. وكانت بينهما مودة وإعجاب متبادل. ولعل هذا من أسباب مارأينا في الخيل من ميل شديد للقياس حيث استخدمه في النحو استخداماً واسعاً.
ومهما يكن الحال فقد اشتهر نحاة البصرة بأنهم قياسون، إذ جعلوا للقياس المنطقي شأناً كبيراً في وضع قواعدهم، حتى أطلق عليهم لقب أهل المنطق. والمعروف عنهم انهم كانوا يضعون القواعد أولاً، ثم يختارون من الشواهد واللهجات ما يلائم تلك القواعد. فإذا اسمعوا اعرابياًَ ينطق بخلاف اقيستهم أهملوا كلامه وعدوه ملحوناً. أما إذا وجدوا الخلاف في القرآن أو في شاهد لايمكن تخطئته لجأوا إلى التأويل والتعليل.
يقول الأستاذ أحمد أمين عن نحاة البصرة: “فهم قد فضلوا القياس وأمنوا بسلطانه وجروا عليه وأهدروا ماعداه، وإذا رأوا لغتين: لغة تسير مع القياس، ولغة لاتسير عليه، فضلوا التي تسير عليه، وأضعفوا من قيمة غيرها. فهم في الواقع أرادوا أن ينظموا اللغة ولو بإهدار بعضها. وأرادوا أن يكون ماسمع من العرب مخالفاً لهذا التنظيم مسائل شخصية جزئية يتسامحون فيها نفسها ولا يتسامحون في مثلها والقياس عليها حتى لا تكثر فتفسد القواعد والتنظيم، هذا إذا لم يتمكنوا من أن يؤولوا الشاذ تأويلاً يتفق وقواعدهم ولو بنوع تكلف.
النحو في الكوفة:
بعد أن نشأ النحو في البصرة وترعرع، تناوله أهل الكوفة. وهناك ظهرت مدرسة في النحو لها طابع خاص. فقد أخذ نحاة الكوفة يعترضون على نحاة البصرة في إخضاع النحو للقياس، وصاروا يناقشونهم في ذلك نقاشاً عنيفاً أدى في بعض الأحيان إلى الخصومة وسفك الدماء.
يقول أهل الكوفة إن القضايا النحوية سبيلها السماع والاستقراء لا الإمعان المنطقي في القياس. فهم يريدون أن يخضعوا في أحكام النحو للذوق الطبيعي، ويطرحون ما يحول دون إحساسهم بالطبيعة اللغوية من أحكام عقلية وأقيسة منطقية.
إذا سمع الكوفيون من أحد الأعراب مثالاً شاذاَ أخذوا به، إذ هو يمثل في نظرهم لهجة بعينها وينبغي أن يحسب حسابها. فإهدار هذا المثال الشاذ إنما هو إهدار لجانب لغوي لا تتم الدراسة إلا به.
ان مدرسة الكوفة كانت تجري في تطوير النحو على أساس الاحترام المتبادل التام لكل ما يصدر من بادية العرب، كأنها تحسب أهل البادية معصومين من الخطأ. أما مدرسة البصرة فكانت تنظر إلى أهل البادية نظرة التقاط واختيار، وهي لا تنزههم من الخطأ واللحن. وكانت تستخرج القواعد بالقياس على الأعم الأغلب من لغة الأعراب. فإذا وجدت فيه شذوذاً أهدرته ولم تقس عليه.
نتيجة النزاع:
أخذ النزاع بين أهل البصرة والكوفة يخمد تدريجياً بمرور الأيام. والظاهر ان المدرستين تداخلت إحداهما بالأخرى وامتزجتا، فأصبحتا مدرسة واحدة. وكان هذا من سوء حظ النحو العربي.
لقد كان الجدير بالنحاة المتأخرين أن يتبعوا إحدى المدرستين ويهملوا الأخرى. ولكننا رأيناهم يأخذون بآرائهما معاً ويعدون أساتذتهما أئمة في النحو بلا تفريق. فضيعوا على النحو بذلك فرصة كبيرة كان المفروض فيها أن تنقذ النحو من الورطة التي وقع فيها أخيراً.
صار النحاة من جهة يقلدون مدرسة الكوفة في عنايتها بكل ما يروى عن اعراب البادية، وصاروا من الجهة الأخرى يقلدون مدرسة البصرة في عنايتها بالقياس. انهم، بعبارة أخرى، أخذوا يهتمون بكل مايردهم من البادية من شواهد شاذة وغير شاذة، فيقيسون عليها. وبهذا صارت القواعد النحوية في وضعها النهائي معقدة ومتشبعة جداً، فابتعدت عما تقتضيه السليقة الفطرية من بساطة ووضوح.
والذي يدرس القواعد النحوية الموجودة بين أيدينا، دراسة موضوعية، يشعر بأنها قواعد اصطناعية غير طبيعية، وليس من المعقول أن يتكلم بها بشر على هذه الأرض.
انتفاضات نحوية:
لم يخل تاريخ النحو، على كل حال، من انتفاضات صغيرة تنهج نهج الكوفة في الاعتراض على استعمال القياس المنطقي في النحو.
يحدثنا أبو حيان التوحيدي في كتاب “المقابسات” عن بعض المناظرات التي كانت تعرض في القرن الرابع الهجري ويدور النقاش فيها حول المنطق والنحو. ونكاد نتلمح في ثنايا تلك المناظرات صراعاً فكرياً يشبه الصراع الذي نشب بين البصرة والكوفة قبل قرنين. فقد كان بعض المشتركين فيها يريدون أن يصبوا أساليب اللغة العربية في قوالب المنطق الإغريقي، بينما كان البعض الآخر يريد الاعتزاز بخصائص اللغة العربية ويستنكر إخضاعها لمنطق غريب عنها.
وفي المغرب، في عهد الموحدين، ظهر أعظم ثائر على النحو العربي، هو ابن مضاء القرطبي. وقد كتب هذا الرجل ثلاثة كتب هي: (1) المشرق في النحو، (2) تنزيه القرآن عما لا يليق بالبيان، (3) الرد على النحاة. وقد حاول بهذه الكتب أن يهدم نحو سيبويه وأقيسته.
والظنون أن هناك شبهاً كبيراً بين رأي مضاء ورأي الأستاذ ابراهيم مصطفى الذي أشرنا إليه في مقالة ماضية. ولكن رأي ابن مضاء لم يقدر له النجاح. فقد كان الناس مشغوفين بنحو سيبويه، فلم يستطع ابن مضاء أو غيره أن يثنيهم عنه.
ابن مالك:
وفي القرن السابع ظهر ابن مالك. وقد اشتهر هذا الرجل في النحو شهرة سيبويه، وإليه يرجع الفضل في تجميد النحو وصبه في قالبه الأخير. فقد نظم ابن مالك نحو سيبويه ووضحه وفصله وقربه إلى أذهان الناس.
ومن أعمال ابن مالك أنه نظم في النحو أرجوزة تبلغ ألف بيت، جمع فيها قواعد النحو. واشتهرت ألفية ابن مالك هذه شهرة واسعة ونالت حظوة كبيرة، حتى حفظها أكثر المتعلمين في الشرق والغرب، وصارت مرجعاً لطلاب النحو فيما يختلفون فيه، وكثرت عليها الشروح المستفيضة.
ولا تزال المدارس الدينية واللغوية حتى يومنا هذا تعتبر ألفية ابن مالك جزءاً مهماً من مناهجها الدراسية. يكفي الطالب أن يحفظ الألفية حتى يصعر خده للناس ويعد نفسه علامة في النحو. فلا يكاد يعترض معترض حتى يشهر عليه “العلامة” بيتاً من الألفية فيفخمه به.
كان النحاة قبل ظهور الألفية يستطيعون أن يبحثوا ويتجادلوا في بعض مبادئ النحو وقواعده، ولكنهم لم يكادوا يرون القواعد النحوية قد قيدت في أبيات من الشعر حتى رضخوا وسكنوا. واستطيع أن أعد ألفية ابن مالك بداية العهد الذي بدا فيه النحو العربي يدخل في طور الجمود.
الصيغة النهائية:
لاحظ الباحثون المحدثون ان الصيغة النهائية التي جمد فيها النحو العربي متأثرة بالمنطق الأرسطوطاليسي تأثراً كبيراً. يقول الدكتور ابراهيم بيومي مدكور ان النحو العربي تأثر، عن قرب أو بعد، بما ورد على لسان أرسطو في كتبه المنطقية من قواعد نحوية، وأن المنطق الأرسطوطاليسي أثر في النحو من جانبين: أحدهما موضوعي والآخر منهجي. وأريد بالقياس النحوي أن يحدد ويوضع على نحو ماحدده القياس المنطقي.
ومما يلفت النظر في كتب النحاة المتأخرين انهم يسلكون في بحوثهم مسلك المناطقة. وكثيراً مانجد القوانين المنطقية التي جاء بها أرسطو مسيطرة على عقولهم، كأنهم يتصورون القواعد النحوية تجري على نفس النمط الذي تجري عليه ظواهر الكون.
ومن الجدير بالذكر هنا أن القوانين المنطقية القديمة ظهر بطلانها أخيراً، فهي لا تصلح اليوم لتفسير ظواهر الكون. ولكن أصحابنا لا يزالون مصرين على التمسك بهاز وهم لا يكتفون بالاعتماد عليها من الناحية الميتافيزيقية، بل نراهم يعتمدون عليها في تعليل قواعدهم النحوية أيضاً. وهذا دليل على اننا نسير متخلفين عن الركب العالمي بمراحل عديدة.
نظرية العامل في النحو:
من قوانين المنطق القديم: أن لكل شيء سبباً وأن لكل حادث محدثاً. وهذا مايعرف لدى المناطقة بقانون السببية. وقد شغف به النحاة وجعلوه أساساً لعلمهم. ومن هنا نشأت عندهم نظرية العامل. وهي نظرية تشغل حيزاً كبيراً من كتبهم، وتعد أهم موضوع عندهم.
ونظرية العامل هذه تدور حول السبب الذي يجعل الكلمة مرفوعة أو منصوبة أو مجرورة. فالنحاة يرون الحركات الاعرابية تتبدل في الكلمة مرة بعد مرة على نظام مطرد. فقالوا أن هذا التبدل عرض حادث وهو لابد له من محدث كما يقول المناطقة. فما هو هذا المحدث؟ وفي البحث وراء هذا المحدث صار النحاة يخلطون ويخبطون خبط عشواء.
ثم ذهبوا إلى القول بأن اجتماع عاملين على معمول واحد غير ممكن. وهم يستندون في ذلك على قانون عدم التناقض الذي جاء في المنطق القديم. فهم يقولون: إذا اتفق العاملان في العمل لزم تحصيل الحاصل وهو محال، أما إذا اختلفا فالنقيضان يجتمعان في المعمول، حيث يكون مثلاً منصوباً ومرفوعاً في آن واحد، وهذا محال أيضاً.
طبيعة العامل:
لو أنهم جعلوا العامل معنوياً لهان الأمر وصار لبحثهم قيمة. ولكنهم استهانوا بالعامل المعنوي وآثروا عليه العامل اللفظي. فهم يعزون رفع الفاعل مثلاُ إلى الفعل الذي يسبقه. وكان الأولى بهم أن يعزوه إلى الفاعلية أو الإسناد، كما يصنع النحاة في اللغات الحديثة.
نشب جدل بينهم ذات مرة حول العامل الذي جعل المبتدأ والخبر مرفوعين. قال الكوفيون: ان عامل رفع المبتدأ هو الخبر، وعامل رفع الخبر هو المبتدأ. فاحتج عليهم البصريون قائلين: ان الكلمتين لا تتبادلان العمل إذ يكون كل منهما عاملاً ومعمولاً في آن واحد. وحجة البصريين في هذا الشيء لا يمكن أن يكون سبباً ونتيجة في الوقت ذاته. وقد أخذوا ذلك من المناطقة طبعاً.
ومن المبادئ التي نادى بها ابن مضاء القرطبي في إصلاح النحو هو إلغاء نظرية العامل من أساسها. ولكن صيحته لم تلق أذناً صاغية، فماتت في مهدها مع الأسف.
تقدير العامل:
كان من الصعب على النحاة أن يجدوا لكل حركة إعرابية عاملاً لفظياً يأتي قبلها. ولهذا لجأوا إلى التقدير، ووصل بهم الأمر في هذا المجال إلى درجة من السخف لا تطاق.
فإذا جئت لهم على سبيل المثال بجملة ” زيداً رأيته” وسألتهم عن العامل الذي نصب “زيداً” أجابوك انه فعل مستتر تقديره “رأيت”ز وبهذا تصبح الجملة عندهم: “رأيت زيداً رأيته”.
وإذا ذكرت لهم الآية القرآنية: “وإن أحد من المشركين من استجارك….” وسألتهم عن العامل الذي رفع كلمة “أحد” أجابوك انه فعل مستتر تقديره “استجارك” فتصبح الآية: “وان استجارك أحد من المشركين استجارك…”.
دكتاتورية النحاة:
وصار النحاة حكاماً بأمرهم يفترضون العامل كما يشاؤون، فلا يعترض عليهم أحد.
يحكى أن الكسائي كان في مجلس الرشيد ذات يوم فقرأ أبياتاً من الشعر. وكان الأصمعي حاضراً فأراد أن ينافس الكسائي في علمه بالنحو فاعترض على كلمة جاء بها الكسائي مرفوعة. فانتهره الكسائي وقال له: “اسكت، ماأنت وهذا..” ثم أخذ يتباهى على الأصمعي ويأتي بالكلمة مرفوعة ومنصوبة ومجرورة. وكان قادراً أن يخترع في سبيل ذلك ماشاء من العوامل. فسكت الأصمعي، وهبطت مكانته في عين أمير المؤمنين.
ويحكى أيضاً: ان أحد أمراء بني بويه سأل نحوياً عن العامل الذي جعل المستثنى منصوباً في نحو “قام القوم إلا زيداً”ز فقال النحوي أن عامل النصب محذوف تقديره “استثنى زيداً”، وهنا اعترض الأمير فقال: “لماذا لا يمكن تقدير عامل آخر غير ذلك العامل الناصب، حيث يقدر “امتنع زيد”، وبهذا يصبح زيد مرفوعاً. فسكت النحوي…
ويبدو ان النحوي سكت لأن المعترض عليه كان سلطاناً يجلد ويقتل. ولو كان المعترض رجلاً مستضعفاً كالأصمعي لانتهره النحوي وقال له: اسكت، ماأنت وهذا!